فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (22):

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ طَلَبُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى لَهُمْ، أَيْ لَا تَسُرُّهُمْ رُؤْيَتُهُمْ وَلَا تَكُونُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِشَارَةً بِخَيْرٍ، وَرُؤْيَتُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ تَكُونُ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، وَتَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا بُشْرَى لَهُمْ فِي رُؤْيَتِهِمْ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ.
أَمَّا رُؤْيَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ فَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُمْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهَا لِمَا يُلَاقُونَ مِنَ الْعَذَابِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الْآيَةَ [8/ 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [6/ 93] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [47/ 27- 28] وَأَمَّا رُؤْيَتُهُمُ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا بُشْرَى لَهُمْ فِيهَا أَيْضًا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [6/ 8].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [25/ 22] يَدُلُّ بِدَلِيلِ خِطَابِهِ: أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ، أَنَّ غَيْرَ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [41/ 30- 32].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ. لَا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا رَأَوُا الْمَلَائِكَةَ تَوَقَّعُوا الْعَذَابَ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَيَقُولُونَ حِينَئِذٍ لِلْمَلَائِكَةِ: حِجْرًا مَحْجُورًا: أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ أَنْ تَمَسُّونَا بِسُوءٍ أَيْ لِأَنَّنَا لَمْ نَرْتَكِبْ ذَنْبًا نَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعَذَابَ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [16/ 28] فَقَوْلُهُمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: أَيْ لَمْ نَسْتَوْجِبْ عَذَابًا، فَتَعْذِيبُنَا حَرَامٌ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَادَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ، أَيْ حِجْرًا مَحْجُورًا عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوٍّ مَوْتُورٍ أَوْ هُجُومِ نَازِلَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَعْنِي: حِجْرًا مَحْجُورًا فِي بَابِ الْمَصَادِرِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مَتْرُوكٍ إِظْهَارُهَا نَحْوَ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَعَمْرَكَ اللَّهَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {حِجْرًا مَحْجُورًا} أَصْلُهُ مِنْ حَجَرَهُ بِمَعْنَى مَنَعَهُ، وَالْحِجْرُ: الْحَرَامُ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أَيْ حَرَامٌ: {لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [6/ 138] وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
حَنَّتْ إِلَى النَّخْلَةِ الْقُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا ** حَجْرٌ حَرَامٌ أَلَا تِلْكَ الدَّهَارِيسُ

فَقَوْلُهُ حَرَامٌ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ حَجْرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَرَامٌ وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا أَصْبَحَتْ أَسْمَاءُ حِجْرًا مُحَرَّمَا ** وَأَصْبَحَتْ مِنْ أَدْنَى حَمْوَتِهَا حَمَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
قَالَتْ وَفِيهَا حَيْرَةٌ وَذُعْرُ ** عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمْ وَحِجْرُ

وَقَوْلُهُ: {مَحْجُورًا} تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الْحِجْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ذَيْلٌ ذَائِلٌ. وَالذَّيْلُ الْهَوَانُ، وَمَوْتٌ مَائِتٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حِجْرًا مَحْجُورًا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ حِجْرًا مَحْجُورًا. أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ تَكُونَ لِلْكُفَّارِ الْيَوْمَ بُشْرَى، أَوْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ، أَوْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: {يَوْمَ} مَنْصُوبٌ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، إِمَّا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِلَا بُشْرَى أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى، أَوْ يُعْدَمُونَهَا، وَيَوْمَئِذٍ لِلتَّكْرِيرِ، وَإِمَّا بِإِضْمَارِ اذْكُرْ: أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ قَالَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ [17/ 19]. وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ [16/ 97]. وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (24):

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.
اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ حِسَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَسِيرٌ، وَأَنَّهُ يَنْتَهِي فِي نِصْفِ نَهَارٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَقِيلًا: أَيْ مَكَانَ قَيْلُولَةٍ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، قَالُوا: وَهَذَا الَّذِي فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [84/ 7- 9].
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا الْآيَةَ، أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ لَيْسُوا كَذَلِكَ وَأَنَّ حِسَابَهُمْ غَيْرُ يَسِيرٍ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [25/ 26] فَقَوْلُهُ: {عَلَى الْكَافِرِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} الْآيَةَ [21/ 103]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [54/ 8] وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، فَهَذِهِ أَقْوَالُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قَالَ فِي الْغُرَفِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ حِسَابُهُمْ أَنْ عُرِضُوا عَلَى رَبِّهِمْ عَرْضَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [84/ 7- 9] وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ثُمَّ قَرَأَ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَقَرَأَ: ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ ضَحْوَةٌ. فَيَقِيلُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مَعَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيَقِيلُ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَعَ الشَّيَاطِينِ مُقَرَّنِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُفْرَغُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نِصْفَ النَّهَارِ. فَيَقِيلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الصَّوَّافِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّهُمْ لَيَقِيلُونِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حِينَ يَفْرَغُ النَّاسُ مِنَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ السَّاعَةَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، السَّاعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا ارْتِفَاعُ الضُّحَى الْأَكْبَرُ، إِذَا انْقَلَبَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِيهِمْ لِلْقَيْلُولَةِ، فَيَنْصَرِفُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيُنْطَلَقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَانَتْ قَيْلُولَتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأُطْعِمُوا كَبِدَ الْحُوتِ فَأَشْبَعَهُمْ كُلَّهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ. أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وَذَكَرَ نَحْوَهُ الْقُرْطُبِيُّ مَرْفُوعًا وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [70/ 4] فَقُلْتُ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمُ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّهُ قَرَأَ ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ شَاذٌّ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الْحَقَّ: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [37/ 68].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، وَعَلَيْهِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ قَتَادَةَ هُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أَيْ مَنْزِلًا وَمَأْوًى، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْقَيْلُولَةِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيَنْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مِنِ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُشِيرَةَ إِلَى الْجَمْعِ، وَبَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَقِيلَ الْقَيْلُولَةُ أَوْ مَكَانُهَا، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ زَمَنَ الْحَرِّ مَثَلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ** رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

أَيْ نَزَلَا فِيهَا وَقْتَ الْقَائِلَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَمَا فَسَّرَ بِهِ قَتَادَةُ الْآيَةَ، مِنْ أَنَّ الْمَقِيلَ الْمَنْزِلُ وَالْمَأْوَى، مَعْرُوفٌ أَيْضًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ:
الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ** ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ

فَقَوْلُهُ: يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ، يَعْنِي: يُزِيلُ الرُّءُوسَ عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنَ الْأَعْنَاقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقِيلَ فِيهِ الْمَحَلُّ الَّذِي تَسْكُنُ فِيهِ الرُّءُوسُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَنْصَارِيِّ:
وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَجْمَعْتَ أَمْرًا ** بِأَيِّ الْأَرْضِ يُدْرِكُكَ الْمَقِيلُ

وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: بِأَيِّ الْأَرْضِ يُدْرِكُكَ الثَّوَابُ وَالْإِقَامَةُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا تَكَلَّمْنَا عَلَى مِثْلِهَا قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} الْآيَةَ [25/ 15].

.تفسير الآية رقم (25):

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّمَاءَ تَتَشَقَّقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْغَمَامِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُنَزَّلُ تَنْزِيلًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ. قَالَ: وَالْبَاءُ وَعَنْ يَتَعَاقَبَانِ كَقَوْلِكَ: رُمِيتُ بِالْقَوْسِ، وَعَنِ الْقَوْسِ انْتَهَى. وَيُسْتَأْنَسُ لِمَعْنَى عَنْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} الْآيَةَ [50/ 44].
وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوُجُودِ الْغَمَامِ، وَتَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ كُلُّهَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا تَشَقُّقُ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [55/ 37] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [69/ 15- 16] وَقَوْلِهِ:
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} الْآيَةَ [84/ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} الْآيَةَ [77/ 8- 9] فَقَوْلُهُ: فُرِجَتْ: أَيْ شُقَّتْ، فَكَانَ فِيهَا فُرُوجٌ أَيْ شُقُوقٌ كَقَوْلِهِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [82/ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [78/ 19] وَأَمَّا الْغَمَامُ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُمَا مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ [2/ 210]. وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [89/ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} الْآيَةَ [6/ 158] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [115/ 8].
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّمَاءَ تَنْفَتِحُ بِغَمَامٍ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَفِي الْغَمَامِ الْمَلَائِكَةُ يَنْزِلُونَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ صُحُفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: {تَشَّقَّقَ} بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ} بِنُونَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ مَعَ تَخْفِيفِ الزَّايِ، وَضَمِّ اللَّامِ، مُضَارِعُ أَنْزَلَ، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَرْفُوعًا نَائِبُ فَاعِلِ نُزِّلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرًا، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (26):

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُلْكَ الْحَقَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا كَوْنُ الْمُلْكِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [1/ 4] وَقَوْلِهِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [40/ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الْآيَةَ [6/ 73] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَسِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ قَرِيبًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} الْآيَةَ.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}. مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الظَّالِمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأَنَّ فُلَانًا الَّذِي أَضَلَّهُ عَنِ الذِّكْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ أُبَيًّا خَلِيلًا، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ، لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَكُلُّ ظَالِمٍ أَطَاعَ خَلِيلَهُ فِي الْكُفْرِ، حَتَّى مَاتَ عَلَى ذَلِكَ يَجْرِي لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِهَا. فَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ، لِأَنَّ النَّادِمَ نَدَمًا شَدِيدًا، يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ، وَنَدَمُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَسْرَتُهُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الْآيَةَ [10/ 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ [34/ 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} الْآيَةَ [6/ 31]. وَالْحَسْرَةُ أَشَدُّ النَّدَامَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [2/ 167] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِالرَّسُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَاتَّخَذَ مَعَهُ سَبِيلًا: أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} [33/ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [89/ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [15/ 2] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالسَّبِيلُ الَّتِي يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنْ يَتَّخِذَهَا مَعَ الرَّسُولِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ذُكِرَتْ أَيْضًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [25/ 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [76/ 29 و33/ 19] فِي الْمُزَّمِّلِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهُ الْمَآبُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [78/ 39] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يُنَادِي بِالْوَيْلِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ مَنْ أَضَلَّهُ خَلِيلًا، ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا دُعَاءُ الْكُفَّارِ بِالْوَيْلِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [25/ 13- 14] وَأَمَّا تَمَنِّيهِمْ لِعَدَمِ طَاعَةِ مَنْ أَضَلَّهُمْ، فَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [2/ 176] فَلَفْظَةُ لَوْ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً لِلتَّمَنِّي، وَلِذَلِكَ نُصِبَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ الْآيَةَ. وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نَدَمِهِمْ عَلَى مُوَالَاتِهِمْ، وَطَاعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّ أَخِلَّاءَ الضَّلَالِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُضِلُّونَ أَخِلَّاءَهُمْ عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَهُمْ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [7/ 202] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الْآيَةَ [41/ 25] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} الْآيَةَ [6/ 128]؛ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [33/ 67] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [7/ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [34/ 31]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْكَافِرِ النَّادِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْخَذُولُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَذَلَهُ إِذَا تَرَكَ نَصْرَهُ مَعَ كَوْنِهِ يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [3/ 160] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْمَرْءَ مَيِّتًا بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِ ** وَلَكِنْ بِأَنْ يُبْغَى عَلَيْهِ فَيُخْذَلَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
إِنَّ الْأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ** هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْذُلُ الْإِنْسَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [14/ 22] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الْآيَةَ [8/ 48]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ الْأَظْهَرُ أَنَّ الذِّكْرَ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُهُ: لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا الْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَةَ فُلَانٍ كِنَايَةً عَنِ الْعِلْمِ: أَيْ لَمْ أَتَّخِذْ أُبَيًّا أَوْ أُمَيَّةَ خَلِيلًا، وَيُكَنُّونَ عَنْ عَلَمِ الْأُنْثَى بِفُلَانَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ الْعُذْرِيِّ:
أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْوُشَاةَ وَقَوْلَهُمْ ** فُلَانَةُ أَضْحَتْ خَلَّةً لِفُلَانِ

وَقَوْلُهُ: {يَعَضُّ الظَّالِمُ} مِنْ عَضِضَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي، يَعَضُّ بِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الدِّهْلِيِّ:
الْآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرَبَتِي ** وَعَضِضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جَذْمِ

فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْبَيْتِ عَضِضْتُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْأَوْلَى وَفِيهَا لُغَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ، وَعَضَّ تَتَعَدَّى بِعَلَى كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيْتِ الْحَارِثِ بْنِ وَعْلَةَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَرُبَّمَا عُدِّيَتْ بِالْبَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَقَالَتْ وَعَضَّتْ بِالْبَنَانِ فَضَحْتَنِي ** وَأَنْتَ امْرُؤٌ مَيْسُورُ أَمْرِكَ أَعْسَرُ

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَرِينَ السُّوءِ قَدْ يُدْخِلُ قَرِينَهُ النَّارَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَنَّ قَرِينَهُ كَادَ يُرْدِيهِ أَيْ يُهْلِكُهُ بِعَذَابِ النَّارِ، وَلَكِنْ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ فَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ فَهَدَاهُ وَأَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنَّى كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [37/ 51- 57].

.تفسير الآية رقم (30):

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}.
مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إِلَى رَبِّهِ هَجْرَ قَوْمِهِ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَيْ: تَرَكَهُمْ لِتَصْدِيقِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهَذِهِ شَكْوَى عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا أَعْظَمُ تَخْوِيفٍ لِمَنْ هَجَرَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْآدَابِ وَالْمَكَارِمِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَيَعْتَبِرْ بِمَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّبْكِيَّ قَالَ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مَسْأَلَةً أُصُولِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْفِعْلِ فِعْلٌ. وَالْمُرَادُ بِالْكَفِّ التَّرْكُ، قَالَ فِي طَبَقَاتِهِ: لَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ لَمْ أَرَ أَحَدًا عَثَرَ عَلَيْهَا.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} فَإِنَّ الْأَخْذَ: التَّنَاوُلُ، وَالْمَهْجُورَ: الْمَتْرُوكُ، فَصَارَ الْمَعْنَى تَنَاوَلُوهُ مَتْرُوكًا، أَيْ: فَعَلُوا تَرْكَهُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَشْرُ الْبُنُودِ شَرْحُ مَرَاقِي السُّعُودِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
فَكَفُّنَا بِالنَّهْيِ مَطْلُوبُ النَّبِيِّ قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اسْتِنْبَاطُ السُّبْكِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ وَتَفْسِيرُهُ لَهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَظْهَرْ لِي كُلَّ الظُّهُورِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْكَفِّ فِعْلًا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ كَرِيمَتَانِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، وَلَا نِزَاعَ. فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ السُّبْكِيُّ مِنْ آيَةِ الْفُرْقَانِ هَذِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَتْهُ بِإِيضَاحٍ الْآيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [5/ 63] فَتَرْكُ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ نَهْيَهُمْ عَنْ قَوْلِ الْإِثْمِ وَأَكْلِ السُّحْتِ سَمَّاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صُنْعًا فِي قَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، أَيْ: وَهُوَ تَرْكُهُمُ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ، وَالصُّنْعُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفِعْلَ، فَصَرَاحَةُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [5/ 79] فَقَدْ سَمَّى جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَرْكَهُمُ التَّنَاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِعْلًا، وَأَنْشَأَ لَهُ الذَّمَّ بِلَفْظَةِ بِئْسَ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ جَامِدٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [5/ 97] أَيْ: وَهُوَ تَرْكُهُمُ التَّنَاهِيَ، عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَصَرَاحَةُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى مَا ذُكِرَ وَاضِحَةٌ، كَمَا تَرَى.
وَقَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، فَقَدْ سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْكَ أَذَى الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا، وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي وَقْتِ بِنَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ** لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ

فَسَمَّى قُعُودَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ، وَتَرْكَهُمْ لَهُ عَمَلًا مُضَلِّلًا، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ، إِلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، أَيْ: وَهُوَ الْحَقُّ. وَبَيَّنَ فُرُوعًا مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ نَظَمَهَا الشَّيْخُ الزَّقَّاقُ فِي نَظْمِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ، وَأَوْرَدَ أَبْيَاتَ الزَّقَّاقِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: وَجَلَبْتُهَا هُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى اسْتِعَانَةً، وَهُوَ تَضْمِينُ بَيْتٍ فَأَكْثَرَ بِقَوْلِهِ:
فَكَفُّنَا بِالنَّهْيِ مَطْلُوبُ النَّبِي ** وَالْكَفُّ فِعْلٌ فِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ

لَهُ فُرُوعٌ ذُكِرَتْ فِي الْمَنْهَجِ ** وَسَرْدُهَا مِنْ بَعْدِ ذَا الْبَيْتِ يَجِي

مِنْ شُرْبٍ أَوْ خَيْطٍ ذَكَاةُ فَضْلِ مَا ** وَعَمَدٍ رَسْمِ شَهَادَةٍ وَمَا

عَطَّلَ نَاظِرٌ وَذُو الرَّهْنِ كَذَا ** مُفَرِّطٌ فِي الْعَلْفِ فَادْرِ الْمَأْخَذَا

وِكَالَّتِي رُدَّتْ بِعَيْبٍ وَعَدَمْ ** وَلِيِّهَا وَشِبْهِهَا مِمَّا عُلِمْ

فَالْأَبْيَاتُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ نَظْمِ الشَّيْخِ الزَّقَّاقِ الْمُسَمَّى بِالْمَنْهَجِ الْمُنْتَخَبِ، وَفِيهَا بَعْضُ الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكَفِّ، هَلْ هُوَ فِعْلٌ، وَهُوَ الْحَقُّ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُ الزَّقَّاقِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَبْيَاتِهِ مِنْ شُرْبٍ مُتَعَلِّقٍ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ:
وَهَلْ كَمَنْ فَعَلَ تَارِكٌ كَمَنْ ** لَهُ بِنَفْعِ قُدْرَةٍ لَكِنْ كَمَنْ

مِنْ شُرْبٍ، إِلَخْ.
فَقَوْلُهُ: مِنْ شُرْبٍ بَيَانٌ لِلنَّفْعِ الْكَامِنِ فِي قَوْلِهِ:
لَهُ بِنَفْعِ قُدْرَةٍ لَكِنْ كَمَنْ

أَيْ: لَكِنَّهُ تَرَكَ النَّفْعَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَتَرْكُهُ لَهُ كَفِعْلِهِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ تَرْكِهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ شُرْبٍ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ فَضْلُ شَرَابٍ، وَتَرَكَ إِعْطَاءَهُ لِمُضْطَرٍّ حَتَّى مَاتَ عَطَشًا، فَعَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ يَضْمَنُ دِيَتَهُ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَفَضْلُ الطَّعَامِ كَفَضْلِ الشَّرَابِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ خَيْطٍ يَعْنِي أَنَّ مَنْ مَنَعَ خَيْطًا عِنْدَهُ مِمَّنْ شُقَّ بَطْنُهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ جَائِفَةٌ، حَتَّى مَاتَ ضَمِنَ الدِّيَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، وَعَلَى عَكْسِهِ فَلَا ضَمَانَ، وَقَوْلُهُ: ذَكَاةُ، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ مَرَّ بِصَيْدٍ لَمْ يَنْفَذْ مَقْتَلُهُ وَأَمْكَنَتْهُ تَذْكِيَتُهُ فَلَمْ يُذَكِّهِ حَتَّى مَاتَ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ.
وَقَوْلُهُ: فَضْلِ مَا، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَاءٌ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ سَقْيِ زَرْعِهِ وَلِجَارِهِ زَرْعٌ وَلَا مَاءَ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنْهُ الْمَاءَ حَتَّى هَلَكَ زَرْعُهُ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: وَعَمَدٌ، يَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ عَمَدٌ جَمْعُ عَمُودٍ، فَمَنَعَهَا مِنْ جَارٍ لَهُ جِدَارٌ يَخَافُ سُقُوطَهُ حَتَّى سَقَطَ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: رَسْمُ شَهَادَةٍ، يَعْنِي: أَنَّ مَنْ مَنَعَ وَثِيقَةً فِيهَا الشَّهَادَةُ بِحَقٍّ حَتَّى ضَاعَ الْحَقُّ، هَلْ يَضْمَنُهُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: وَمَا عَطَّلَ نَاظِرٌ، يَعْنِي: أَنَّ النَّاظِرَ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ مَثَلًا إِذَا عَطَّلَ دَوْرَهُ فَلَمْ يُكْرِهَا، حَتَّى فَاتَ الِانْتِفَاعُ بِكِرَائِهَا زَمَنًا أَوْ تَرَكَ الْأَرْضَ حَتَّى تَبَوَّرَتْ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: وَذُو الرَّهْنِ: يَعْنِي إِذَا عَطَّلَ الْمُرْتَهِنُ كِرَاءَ الرَّهْنِ، حَتَّى فَاتَ الِانْتِفَاعُ بِهِ زَمَنًا، وَكَانَ كِرَاؤُهُ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَقَوْلُهُ: كَذَا مُفَرِّطٌ فِي الْعَلْفِ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ دَابَّةً عِنْدَ أَحَدٍ وَمَعَهَا عَلَفُهَا، وَقَالَ لَهُ: قَدِّمْ لَهَا الْعَلَفَ، فَتَرَكَ تَقْدِيمَهُ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ، هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ وَالْعَلْفُ فِي الْبَيْتِ بِسُكُونِ الثَّانِي، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْعَلَفِ بِفَتْحِ الثَّانِي.
وَقَوْلُهُ:
وَكَالَّتِي رُدَّتْ بِعَيْبٍ وَعَدَمِ وَلِيِّهَا: يَعْنِي أَنَّ الْوَلِيَّ الْقَرِيبَ إِذَا زَوَّجَ وَلِيَّتَهُ، وَفِيهَا عَيْبٌ يُوجِبُ رَدَّ النِّكَاحِ وَسَكَتَتِ الزَّوْجَةُ، وَلَمْ تُبَيِّنْ عَيْبَ نَفْسِهَا وَفَلْسَ الْوَلِيِّ هَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالصَّدَاقِ أَوْ لَا؟ فَهَذِهِ الْفُرُوعُ وَمَا شَابَهَهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْكَفِّ هَلْ هُوَ فِعْلٌ أَوْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاللُّغَةُ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَعَلَيْهِ: فَالصَّحِيحُ لُزُومُ الضَّمَانِ، فِيمَا ذُكِرَ.